خصائص النمط الغريزي :
أ - ضعف الدافع:
إذا أراد إنسان ما أن يصل إلى هدف معين فإنه أولاً يحتاج إلى دافع يكبر في قلبه ويشد من عزيمته ويدفعه لتحمل الآلام والمشقات والسير في الصعاب للوصول إلى الهدف ويكون الدافع عادة أسمى من الحفاظ على الذات، فيندفع المرء لتحقيق هدفه السامي منشغلاً كل الانشغال عن حاجات جسده وغير عابئ بما يعتريه من جراح ونكبات ومن جوع وآلام وغير منتظر مكافأة ، وغير مدفوع بترهيب وترغيب. إن الدافع هو الإيمان وهو العقيدة لأنها تغرس المحرك في النفس البشرية وكما قال تعالى (يا آيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم ، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)
ب - السلوك الغريزي :
ينحصر تفكير الانسان ذي النمط الغريزي في إشباع حاجاته من أكل وشرب ونوم ولباس وأشباع حاجته الجنسية . وهو يستجيب للأحداث استجابة تلبي إشباع هذه الحاجات . بحيث أن كل فعل يصدر عنه ينتظر مردوداً يكافئ فيه هذا الفعل بما يتحقق مع هذه الحاجات . ولذلك فإن استجابته لا تنبع من عملية عقلية وبمعنى آخر فهو منفعل بالأحداث لا فاعل فيها إذ تكون ردود أفعاله عاطفية ومتأثرة إلى أبعد الحدود ويكون سريع التوتر، سريع الهدوء، ويكاد لا يصلح لمواجهة الأحداث الجسام والمآزق الخطرة.
ج - حب البروز :
إحدى الصفات الأساسية لصاحب النمط الغريزي هي اهتمامه بأن يعرف الآخرون بأنه إنسان ذو شأن ومكانة عالية تميزه عن غيره لذلك فإننا نراه يميل إلى نسج واختراع حكايات كاذبة يبدو فيها بطلاً كأن يدعي أنه قاتل في المكان الفلاني وألقي زجاجة حارقة في اليوم الفلاني وأطلق الرصاص في المظاهرة الفلانية وأن له موعداً الليلة - مثلاً - مع مجاهدين لتدبير عملية مقاومة، ..الخ وهو حتى إذا شارك فعلياً في المقاومة فلن يتورع عن إفشاء أسرارها حباً بإظهار ذاته غير حاسب للعواقب الوخيمة وراء ذلك.
إن هذا السلوك يعبر عن ضعف ومركب نقص نفسي لدى صاحب النمط الغريزي الذي تنعدم عنده أدنى حدود السرية، ومعروف أن السرية هي أهم عناصر العمل الجهادي ولا يمكنها أن تعيش في قلب واحد يملأه حب البروز.
د - الانتماء العفوي :
كون صاحب النمط الغريزي يتفاعل بدافع العاطفة لا العقل، فإن انتماءه للمقاومة لا يكون إلا انتماء عفوياً، بمعنى أنه انتماء غير خاضع لدراسة العقل والتمحيص وإيمان الروح، فتكون نفسيته قلقة وشخصيته متقلبة وانتماؤه التنظيمي غير ثابت حيث قد يعرض لموقف عاطفي (من صداقة وميل نفسي ونحوه) شبيه بالموقف الذي جعله ينتمي لتنظيم معين وسرعان ما يغير موقعه وينتمي لتنظيم آخر، وهذا عنصر غاية في الإرباك للعمل السري ومقومات التنظيم، ويعرض التنظيمات للانكشاف واضطراب الخطط.
هـ - الجبن وعدم الثبات :
صاحب النمط الغريزي عُرضةٌ للتأثير الشديد بالانفعالات والأحداث المفاجئة وهو لا يتقن التصرف في الكثير من الأحوال ويميز الخوف الشديد سلوكه وتصرفاته، فإن رأى في الحراسة ظل الأشجار ظنها أشباحاً تتحرك، وربما أطلق الرصاص، وربما أصاب أخاً له خارجاً لقضاء حاجة.
إنه شخص مرتجف وضعيف مستلب لخيالات الخطر وأوهامه النابعة من داخله. إنه إنسان تبعي منقاد لغرائزه نراه سلساً متجاوباً مع ضابط المخابرات أثناء التحقيق، ضعيفاً مرتعداً أمام التعذيب وليس بوسعه أن يخفي شيئاً مهما صغر. إن الإنسان الغريزي يتصف باليأس والانفلاش، وهو مظهري السلوك متقلب عديم المبادرة، يتقدم الناس في مواطن الراحة ويتراجع في مواطن الخطر ومؤكد بعد ذلك أن هذه الصفات إن وجدت في شخص ما فإنها تحكم عليه بالتفكك والميوعة وان ظهرت في مجموعة فإنها تحكم عليها بالفناء، وإذا تفشت في المجتمع صار ملعباً للذل والهوان والخسران. والإسلام وحده القادر على تربية الشخصية وغسلها من احتمالات وجود بعض صفات النمط الغريزي.
( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)
ثانياً
هشاشة البناء التنظيمي
برز في تجربة العمل النضالي الفلسطيني بعد حزيران الكثير من الأخطاء النابعة من عدم أهلية وضعف كفاءة الفدائي من جهة، ومن ضعف البنية التنظيمية التي عمل من خلالها من جهة أخرى وتعاظمت الإشكالية في هذا الخصوص حيث لم يعالج الخلل التنظيمي ولم يداو الضعف الذاتي فتشكلت ثغرة واسعة نفذت المخابرات الصهيونية من خلالها وتمكنت في كثير من الأحيان من ضرب الخلايا التنظيمية. وإفشال المهمات العسكرية في مهدها بالكامل وفي فترة زمنية قصيرة وفي بعض الأحيان اعتقل أفراد تنظيم ما وكشفت جميع خلاياه من عنصر ونصير ومساعد في ليلة واحدة.
إن معالجة هذه الظاهرة تستدعي معرفةً بالأشكال التنظيمية التي طبقت، وكيف نفكر في بناء الخلايا التنظيمية من جهتنا.
أولاً - التنظيم العفوي :
يقتضي العمل الفدائي ضد الاحتلال وجود شكل راقٍ من أشكال التنظيم السري المحكم الذي من شأنه الصمود في وجه العدو وأمام أذرعته الأخطبوطية الأمنية، غير أن التنظيم العفوي يبدو في هذا السياق أضعف أشكال التنظيم فهو لا يعتمد على عقلية تأسيسية واعية، ولا يبحث عن كفاءات، ولا ينتخب كوادره بعناية، ولا يراعي القيام بعمليات إعداد مستفيض أو مرحلة تأهيلية. إنه بكلمة أخرى تنظيم قائم باعتباره شبكة علاقات اجتماعية لأشخاص معينين، وهو تنظيم يفتقر للأطر والقنوات ووجود هيئات محددة تتواصل بطرق تنظيمية ثابتة ومدروسة لا بل إنه تجمع مكشوف بوسع أي واحد أن ينتسب إليه ببساطة وغالباً ما يكون إطاره مقتصراً على الأصدقاء والأقارب والمعارف وأبناء المنطقة الواحدة وقد لا يتعداها بالإضافة إلى أنه رابطة لا ينتظمها فكر يجمع أعضاءً هو من الأمثلة البارزة على هكذا تنظيم التجمعات الأسرية وروابط القرى والمدن والعائلات.
إننا نتحدث هنا عن شكل تنظيمي لا يمكنه أن يتحمل متطلبات العمل النضالي وجانبه السري خاصة.
لكن الانفلاش التنظيمي الذي حصل في واقع الساحة الفلسطينية أدى إلى انفراط بعض الأشكال التنظيمية الأخرى - والتي سنعرض لها لاحقاً - وتحولها إلى شكل عفوي من التنظيم. ولعله من نافل القول أن أسوأ الميزات كالثرثرة وانعدام السرية والوصولية والانتهازية واستغلال التنظيم لمآرب خاصة ستنخر عظم أي تنظيم مهما بلغت درجة قوته وشعبيته، حين يسمح لهذا الشكل التنظيمي أن يحتوي مجمل نشاطاته.
وفيما يلي أحد الأمثلة المأخوذة من واقع النضال الفلسطيني وتدل على مخاطر التنظيم العفوي: -
في بداية عام1985 كانت مجموعة من الشباب تعمل تحت اسم تنظيم ما في أحد مخيمات فلسطين، وكانت هذه المجموعة تقوم بمهمات إعلامية وتحريضية وسياسية وعسكرية وكان أغلب سكان المخيم يتحسسون وجود هذه المجموعة وفي منتصف شهرحزيران1985، في ساعة متأخرة من الليل، تقدم رجل ملثم بكوفية وطرق باب أحد هؤلاء الفتية وناداه باسمه - خالد؟
- نعم أنا خالد ماذا تريد؟
- أريد الحديث معك لخمسة دقائق قال الرجل الملثم وتابع: - أنت لا تعرفني يا خالد.. أنا المسؤول العسكري عن تنظيمكم في كامل قطاع غزة وقد سمعنا عن نشاطاتكم وسعدنا بهذه النشاطات لذلك قررت قيادة الحركة الاتصال بكم مباشرة لمعرفة حاجياتكم من الأسلحة وتبديل الأسلحة القديمة ومساعدتكم بأموال من أجل العمل.
- فأجابه خالد : لايوجد عندنا أسلحة
- قال الغريب: إذن سوف نحضر لكم أسلحة جديدة، وسأل خالداً عن أفضل الشباب من أصدقائه في المجموعة الذين يعتمد عليهم في التنظيم.
- فأجابه خالد على الفور: فلان وفلان وفلان وسأله الرجل الملثم عن أسماء المشكوك فيهم من قبل المجموعة.
ورتب معه لقاء آخر وبعدها أبلغ خالد أصدقاءه بما حدث وكان الجميع سعداء لأن علاقتهم مع القيادة ستكون مباشرة منذ تلك اللحظة ولكن وبعد عدة أسابيع حصل ما لم يكن متوقعاً ففي إحدى ليالي شهر نوفمبر "تشرين ثاني" كان جميع أعضاء المجموعة في أقبية التعذيب الصهيونية ... !
لقد كان الرجل الملثم ضابط مخابرات والبقية معروفة.
ويجدر أن نوضح أنه حتى لو لم تجر حادثة مشابهة لمثالنا السابق فإنه يكفي ضابط المخابرات الصهيوني أن يسأل من هم أصدقاء فلان؟ومن هم المقربون له؟ ومن هم أقرباؤه؟ وبقليل من التحري يستطيع ختراق التنظيم العفوي.
ب - التنظيم الهرمي :
يعتبر التنظيم الهرمي أكثر الأشكال التنظيمية شيوعاً وقدماً وهو شكل أفضل وأكثر تطوراً من التنظيم العفوي.
يتألف التنظيم الهرمي من مجموعات من الخلايا وتتكون الخلية الواحدة من ثلاثة إلى خمسة أشخاص يقودها أمين سر. ويؤلف أمناء سر الخلايا خلية أعلى قد تسمى لجنة منطقة ويؤلف أمناء سر المناطق خلية أعلى قد تشكل قيادة للإقليم وقيادات الأقاليم المختلفة تؤلف القيادة العليا للتنظيم وهذا الشكل هو أبسط أشكال التنظيم الهرمي وإنما سمي بالهرمي كونه يشبه شكل الهرم في التراتب التنظيمي.
إن نظرة إلى تجارب العمل بهذا الشكل من التنظيم تظهر إن الكثير منها قد لاقى الفشل والكشف السريع من جانب المخابرات وهذا يرجع إلى عدة سلبيات لعل أهمها.
1 - إن شروط السرية للعمل التنظيمي والوقاية من سهولة الوقوع في يد المخابرات تقتضي إن يعرف عضو التنظيم اقل قدر من الأعضاء. ولكن في التنظيم الهرمي فإن أمين سر الخلية أو المنطقة يعرف جميع الأعضاء الأدنى منه مرتبة تنظيمية ويعرف أمناء سر الخلايا أو المناطق الأخرى بالإضافة لمعرفته بالشخص الأعلى منه تنظيمياً (عنصر الاتصال) فماذا لو اعتقل هذا الشخص؟أو ماذا يحدث لو اعتقل أحد القيادات العليا في التنظيم؟
2 - المركزية في التنظيم الهرمي طاغية على العلاقات بين الهيئات والأفراد حيث أن الأوامر تعطى من الأعلى إلى الأسفل ولا مجال لأفراد التنظيم العاديين أن يؤثروا في عمل التنظيم بمبادراتهم واقتراحاتهم وهذا يحد من فاعلية عمل التنظيم ، خاصة إذا تعرضت قيادة التنظيم للاعتقال، أو حيل بينها وبين الاتصال بالمراتب التنظيمية الدنيا حيث لا مجال للمبادرة والمبادهة بين أفراد التنظيم في هذه الحالة.
3 - يصعب على التنظيم الهرمي في حال وقوع خطر ما أو تعرضه لمأزق أمني أن يغير شكله، أو أن يبدل مخططاته بشكل سريع وذلك لثلاثة أسباب -
أ - رسوخ واقع الاتصال الثابت (عدم وجود قنوات تبادلية وأشخاص مؤهلين لذلك) .
ب - ثبات شكل العلاقة التنظيمية والرتبة التنظيمية واعتمادها بشكل مطلق على مبادرات الهيئات العليا.
ج - اعتماد هذا التنظيم على خطة تنظيمية وبرنامج يضبط العمل في فترات طويلة نسبية، وخضوعه لأوقات اتصال محددة ومتباعدة بين القيادات والكوادر التنظيمية الأدنى.
4 - إمكانية كشف التنظيم بسهولة نسبية، فيما لو حاولت المخابرات تقمص دور القيادة أو مبعوثها كما حدث في مثال (خالد) .
5 - عدم قدرة قيادة التنظيم على الحصول على تقارير دقيقة تتعلق بالوضع التنظيمي، حيث لا مجال لاتصال أعضاء الخلايا مثلاً مع القيادات العليا وعدم قدرتها على استطلاع أوضاع التنظيم الدقيقة واعتمادها لذلك على الكوادر المتصلة بها مباشرة مما يقوي عنصر الشللية والفساد والنزعة العشائرية والمناطقية .
6 - إمكانية قيام العدو بزرع عميل يتدرج تنظيمياً حتى يصل مواقع حساسة في جسم التنظيم.
ثالثاً - التنظيم الحلقي الشريطي
أُعتُمد هذا الشكل التنظيمي في مجال محدود وضيق في الأرض المحتلة، ويعتبر أرقى من الشكل الهرمي وأكثر نجاعة منه في العمل الجهادي السري ولكنه ليس النموذج الأمثل.
يظهر من اسم التنظيم أنه يقوم على مجموعة حلقات متصلة ببعضها بشكل سلسلة، وكل حلقة تتصل بحلقتين اثنتين فقط ونوضحها كما يلي يقوم الشخص أ بالاتصال بالشخص ب وهذا بدوره يتصل بالشخص ج وهكذا دواليك ويلاحظ أن الشخص أ لا يعرف الشخص ج والشخص ب يعرف الشخصين أ و ج ولكنه لا يعرف الشخص د... وهكذا.
إن أهم ميزة إيجابية لهذا الشكل التنظيمي هو أنه غير معرض للاعتقالات ذات الطابع الجماعي على عكس الأشكال السابق ذكرها. فإذا اعتقل عنصر ينتمي إلى تنظيم حلقي فان الاستجواب يركز على معرفة جوابين من هو مسؤولك؟- من هو العنصر الذي تتصل به؟ولذلك فإن عنصر الوقت لا يكون في صالح العدو وإنما في صالح التنظيم الذي سوف يتنبه قبل فوات الأوان وسيكون لديه الوقت الكافي لاتخاذ الاحتياطات الوقائية اللازمة.
ومما لا شك فيه أن صمود المعتقل في التحقيق أمام التعذيب لا يكسب التنظيم الحلقي الوقت للتصرف فحسب، بل يقطع خيط محاولة التوصل إلى معرفة أعضاء التنظيم كله منذ البداية وبذلك لا يتحقق سوى اعتقال شخص واحد إننا إذ نرى فشل هذه النماذج في الأشكال التنظيمية السابقة فإننا باحتياج إلى تطوير شكل تنظيمي جديد وهي الحلقة المفقودة بما ينسجم مع متطلبات المرحلة .